ثقافه تسويقيه

عندما تَـحضر «الرُّوحُ» في مَتجْر «الجَسَد»

مقالة للعزيز خالد سالم السالم نشرت في جريدة اليوم وتنشر هنا لفائدتها وبعد إذنه

khalid.alsalem@gmail.com

تتجلَّى ثَروة الإنسان الحقيقية في «قيمته» التي تَبْقى، حتى لو خَسِر كل ماله. الإنسان بالقِيَم يَصنَع المال، أما المال وحده فيَصنَع إنساناً بلا قِيَم. ما قِيمة المصانع عندما يتلوث الماء والهواء، وتُباد الأشجار، وتَهلَك الطيور والأسماك، وتَعتَّل صحة البَشر؟ وهل سَيسدُّ المال جوعنا ويروي عطشنا ويُعيد صحتنا؟ سيكون المال حينها، مهما كَثُر، شيئاً عديم القيمة، ويبقى الإنسان.. الكائنُ ذو القيمة الجوهرية في هذا الكون.

أعظمُ التُّجار أكثرهم التصاقاً بهموم البُسطاء، وأسوأهُم أكثرهم تَكسُّباً من آلام البُسطاء. كم تاجراً بيننا ينام قرير العين بينما تُنتِج مصانعه مواداً ضارة يستهلكها الناس دون أن يدرون! مصانع كثيرة لتعبئة المياة والمُرطِّبات والعصائر هُنا في المملكة كانت، ولا يزال بعضها، تُنتِج مشروبات تحوي نِسباً كبيرة من البُرومَات المُسَرطِن الناتِج عن عدم ضبط عملية التعقيم بالأوزون. لا أدري ما حقيقة مشاعِر مالكيها وهم يرون أرقام المصابين بالسرطان تزداد كل يوم؟ هل يَتَملَّكُهم الشعور بالألم والندم، أم يَتَملَّكُهم حُلم شراء قصْر أكبر في إحدى ضواحي «لندن» الراقية؟

لا أذيع سراً إن قلت أن التعامل مع المشروعات التجارية والأرقام بشكل دائم، قد يصيب المرء بنوعٍ من تَبلُّد أو انعدام الحس الإنساني، خصوصاً إذا خلا رصيده من قِيَم كافية لمقاومة إغراءات المال والأرباح.

قبل عام، عَمِلْتُ مع صَدَيق على اقتراح مشروعات مُجْدِية لأحد المُستثمِريِن السعوديين. كانت مهمتنا اختيار المشروع الأمثل للاستثمار. وكان أحد مُقترحاتنا تطويرُ مشروب الكولا الغازي وتوزيعه، تحت علامة تجارية تُطوَّر مَحلياً. فقد رأينا أن رفْعَ شركتيّ «كوكا كولا» و«بيبسي» لسعر التجزئة بنسبة 50 بالمائة في ديسمبر 2009م خَلَق فرصة استثمارية مُغرِية في السوق، فانتعشت مبيعات ماركات الكولا المَحليَّة بشكل فلَكي بسبب بقائها على سعر بيعها الأصلي (1 ريـال).

وعندما قدَّمنا للمُستثمِر مقترَحنا مُعزَّزاً بالأرقام والمعلومات، تَفاجْأنا برفضه. قال لنا بلُطف: «يوجد في مشروب الكولا الغازي مادة اسمها حمض الفوسفوريك، تُضاف إليه لإحداث مفعول اللَّذْعَة عند شُربِه. هذه المادة تمنع امتصاص الجسم للكالسيوم، وتُسبب مشكلات تتراوح في خطورتها من تسوس الأسنان إلى هشاشة العظام. وأنا لا أريد أن أسبب الضرر لأي إنسان». وأضاف: «هل تعلمون أن هذه المادة تُستخدَم كمزيل لصدأ المعادن!».

أذهلني حقيقةً ما سَمِعْت! لم يكن ذهولي نابعاً من المعلومات التي ذَكَرَها المُستثمِر، بل من رفضه القاطِع إيذاء الناس بأي شكل والتربّح على حساب صحتهم، مع أن إنتاج المشروبات الغازية أمر يُقرُّه القانون. قلّما نقابل رجال أعمال بهذا الحس الإنساني الرفيع، يهتمون بغيرهم، ويحسبون حسابات أخرى سَاميَة، ويُقدِّمونها على حساباتهم المالية. معظم رجال الأعمال الذين عرفْتُهم كان هَمُّهم الأكبر حجمُ العائدات، أو عدم وجود فتوى دينية تعارِض عملهم. وما عَدا ذلك، كتأثير أعمالهم على المجتمع والبيئة، لا يَشغل بالَهم كثيراً.

شركات كثيرة غرباً تَبنَّت استراتيجيات تجارية «مسئولة اجتماعياً» عند إدراكِها لإمكانيَّة التَكَسُّب بمسئولية، فأقْبَلت على تصنيع منتجات رفيقة بالبيئة، لا تحوي مواداً ضارة، في أماكن تُراعَى فيها حقوق الإنسان والحيوان. ربما لم يصل وعي المُستهلِك لدينا إلى ما وصَل إليه نظيره في الغرب، فتَخاذَلَت معظم شركاتنا عن تبنِّي هذا الاتجاه.

وعلى عكس ما يَعتقِد البعض، فإن الأعمال التجارية «المسئولة اجتماعياً» مُربِحة أيضاً. ولا يمكن التحدث عن هذا المجال دون ذِكْر مَتْجَر العناية بالجسم «ذي بودي شوب»، أحد أشهر الأعمال العالمية المُهتمَّة برُوح المسئولية الاجتماعية. استراتيجية المَتْجَر بسيطة جداً، حيث ترتكز على: تصنيع أغلب المستحضرات من مواد طبيعية، وتوريد المواد الخام دون وسطاء بأسعار عادلة من مُنتِّجِيِن صِغار لتنمية المجتمعات الصغيرة عالمياً (خصوصاً الفقيرة منها)، وإعادة تعبئة العُبوات للزبائن عند نفاد محتواها لخفْض النفايات، وتجنُّب إجراء أبحاث مخبرية على الحيوانات.

أسَّسَتْ المتجرَ «أنيتا روديك»، الناشطة البريطانية في حقوق الإنسان وحماية البيئة، عام 1976، وباعتها في 2006 على شركة «لوريـال» الفرنسية لمستحضرات التجميل مقابل أكثر من مليار دولار. المثير في الصفقة أن المتجر الأخلاقي الذي يُحرِّم استغلال الحيوانات في التجارب اشترتهُ شركة مستحضرات تجميل مُتَّهَمَة باستغلال الحيوانات مخبرياً. كان تعليق أنيتا ذكياً ومُقْنِعاً، حيث قالت للصحافة: «سأكون في مجلس إدارة لوريـال مثل حِصَان طرواده، وسأؤثر إيجابياً على قرارتها مُستقبَلاً».

لكن الوقت لم يُسعف رُوحها المُلْهمَة كثيراً، فتُوفِّيَت في 2007، إلا أن لمستها الإنسانية الجميلة ما زالت باقية على وجه كل أسواق الدنيا.

 

http://www.alyaum.com/News/art/7061.html

 

 

د. عبيد بن سعد العبدلي

مؤسس مزيج للاستشارات التسويقية والرئيس التنفيذي أستاذ جامعي سابق بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. صحيح بأن هذه المواد الكيميائية تضر بنا على المدى البعيد, لكنه بات مسلم به في وجودها بمعظم المنتوجات الاستهلاكية, ونحن لا نكاد نفتيء باستهلاك المزيد منها من دون شعور أو وعي مننا بالأضرار المترتبة على ذلك. فإدمان المستهلكين عليها وخصوصا صغار السن يدق ناقوس الخطر. وكما ذكر بالمقال فان المنتجين أو المستثمرين تراهم لايلقون بالاٌ سوى على زيادة المدخول الربحي. فسواء كانت هذه المنتجات أو تلك تلحق بنا الضرر أو لا, فإننا المسؤولون أولا وأخيرا عن ذلك لأننا اشتريناه طوعا لا كرها. هناك قانون عالمي ينص على: فليكن البائع على بينة ووعي من المشتري، وليكن المشتري على بينة ووعي من البائع. ولكن هذا لا يلغي الاحساس بالمسؤولية من قبل المصنع أو المستثمر تجاه المجتمع لأنه الوقود للعجلة الاقتصادية وتجاه البيئة لأننا جزء منا وهي جزء منا.
    سأذكر لكم قصة على سبيل المثال لا الحصر؛ مؤسسة تطوعية غير ربحية هدفها توطيد العلاقة بين أفراد المجتمع خصوصا بين من لديهم وقت فارغ ولو لعشرة ساعات اسبوعيا وبين من لايستطيعون تلبية الإحتياجات الاساسية كالغذاء من الفقراء, والحمدلله فإن هذا الشيء شبه معدوم بوسط مجتمعنا السعودي بفضل من ولاة الأمر. فبالرغم من ان المؤسسة تتلقى تبرعات من الجهات الرسمية و كبار الشركات لتوزيع الوجبات الغذائية مجاننا للمحتاجين , هناك استراتيجية اعادة تدوير مخلفات الطعام باستخدام الديدان التي تلتهم المكونات الغذائية فيتم بعد ذلك وضع الديدان بداخل التربة لكي تغذيها ويتم إنماء الخضروات وريِها وفق طرق بسيطة ليتم استخدامها بعد ذلك في اعداد الوجبات الغذائية. بذلك تتم الاستفادة من المخلفات واعادة تدويرها لتنفع البيئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق