مقالات صحفية تسويقية

تُجَّارنا.. وشمس مسؤوليتهم الغائبة!

بقلم: خالد سالم السالم
khalid.alsalem@gmail.com

تخيَّلوا أن تقرؤوا تصريحاً لأحد وكلاء تعبئة المشروبات الغازية في بلدنا مخاطباً المستهلِكين يقول فيه: «لا تفرطوا من شرب مشروباتنا حفاظاً على صحتكم!».

على رِسْلكم.. الموضوع لا يعدو أكثر من مزحة ومحاولة تَخَيُّل؛ فلن تقرؤوا مثل هذا التصريح، ولن تسمعوه حتى في أحلامكم. أغلب تجارنا يمارس التعتيم، وربما تجاوزه إلى التضليل، إلا القليل منهم، في زمن بارَت فيه القِيَم وانتهت صلاحية الأخلاق. تجارنا يبيعون ويكسبون بالمليارات، ولا يحمل كثير منهم حساً مسئولاً صادقاً تجاه مجتمعهم ووطنهم.

أعرف أن أحد كبار تجار المشروبات الغازية في بلدنا، لا يدخل بيته مشروبه الغازي الأسود الذي ينتجه مصنعه، ويُدرُّ عليه الملايين سنوياً؛ فهو يعي مخاطر الإكثار منه. لكن هذا التاجر المواطن، لم يتفوه علناً، ولا مرة واحدة في حياته، بتصريح يحث الناس على الاعتدال في استهلاك مشروبه، اعتقاداً منه، ربما، بأن كلامه قد يؤثر سلبياً على مستوى مبيعاته.

ولنقارن ذلك بتصريح مؤسس مطاعم «بابا جونز» أحد أكبر مطاعم البيتزا في العالم. فقد أطلق جون شناتر صيحة تحذير أدهشت محبي البيتزا التي يصنعها، نصحهم فيها بعدم الإكثار من تناولها. وقال شناتر خلال مقابلة إذاعية في مَعْرِض ردِّه على سؤال بشأن مدى قلقه من تأثير حملة الحكومة البريطانية لمكافحة السمنة على مبيعات البيتزا: «لا.. البيتزا مفيدة فعلاً في حال عدم الإفراط في تناولها. لا يمكن الفرد التهام خمس أو ست شرائح. عندما يتقيَّد بشريحة واحدة أو اثنين فقط، فهي مغذية».

أعرف أن ما قاله جون شناتر يُعد سفهاً و«قِلَّة سَنَع» في منظور تُجارنا الأشاوس، وربما اعتقدَ بعضهم أن به «مسَّاً»، أو قد طالهُ الخَرَف. لكن واقع الأمر يقول أن هذا الرجل أمين وصادق مع نفسه ومجتمعه، يهتم بمن حوله، وتضايقه المآسي التي يراها بسبب السمنة وعادات الأكل الخاطئة. فكان أضعف ما أملاه عليه ضميره كلمةُ حق يحثُّ فيها المستهلكين على الاعتدال، ولو على حساب مبيعاته. تِلكُم هي المسؤولية الحقيقية، والحس الإنساني العالي الذي نفتقده في سلوك كثير من تجارنا.

أبسط مسؤولية تجارية تخلَّى عنها تُجارنا نجدها مُشْهَرَة بخط عريض، بلا خجل، على فاتورة البيع: «البضاعة المباعة لا تُرَدُّ ولا تُستبدَل»! ففي هذه العبارة استلاب لحق المستهِلك في إعادة بضاعة معطوبة أو فاسدة، أو ربما غير ملائمة لغرَضه وهي في حالتها الأصلية!

يقول صديقٌ لي، كنتُ في بريطانيا لإتمام دورة مدتها 6 أشهر، فطلبتْ زوجتي عربة أطفال للتنقل بابني الصغير. فتوجهنا لأحد المتاجر هناك، واشترينا ما يناسبنا. عندما أتممتُ دورتي، وهممت بالمغادرة، وجدتُ أن العربة عبءٌ فائض، فقلت في نفسي أتركها للمتجر بدَل رميها، فقَد يأخذها من يستفيد منها بعدي.

وفعلاً، ذهبتُ بالعربة للمتجر. وعندما شرحتُ رغبتي بتركها نظراً لسفري. قال لي مدير المتجر: هل بها عيبٌ ما؟ فقلت لا. فقال: إذا كنت غير راضٍ عنها، أعدنا لك المبلغ كاملاً؟ فقلت: لا، بالعكس فقد استفدتُ منها وكانت رائعة. فقال لا يمكنني حسب أنظمة المتجر أن آخذها منك دون سبب، إلا أن أعيد مبلغ الشراء لك. وأعطاني مبلغ الشراء، وشكرني، وقال: لا تقلق، سنتدبر نحن أمر إعادة بيعها وأخذ حقِّنا. وخرجتُ وأنا كُلي دهشة وإعجاب بإحسان الظن الذي تجاوز كل تجاربي السابقة في وطني.

على فكرة.. ذلك المتجر له فروع في المملكة، غير أن الوكيل «المواطِن» عدَّل سياسات المحل بما يتناسب وانطباعاته عن أبناء بلده. لدى تُجِّار الغرب، 95 بالمائة من مواطنيهم صادقون، و5 بالمائة فقط مراوغون، والتعامل يتم على أساس ذلك. أما لدى تجارنا، فالعكس تماماً، والأمثلة أكثر من أن تُنشَر.

أتمنى أن يدرك تجارنا أن على شركاتهم مسؤوليات أخرى غير تحقيق الأرباح؛ مسؤوليات ذات طابع أخلاقي وإنساني وقانوني تجاه المجتمعات التي تعمل وتربح فيها شركاتهم. أقل هذه المسؤوليات هو توفير المعلومة الصحيحة والكاملة عن مكونات المنتجات التي نشتريها منهم. قبل أيام كنتُ في متجر للعُدَد والأدوات، واشتريت منتجاً أمريكي الصنع لتشحيم المعادن، وقرأت في إرشادات الاستخدام على العبوة بالإنجليزية ما يلي: «يحتوي هذا المنتج على مادة س التي تُعد قانونياً مادة مسرطنة في ولاية كاليفورنيا». تُرى.. هل سنقرأ مثل هذه العبارة التحذيرية، لو أُنتِج هذا المُنتَج هُنا؟

مع شكري الجزيل للعزيز خالد على سماحة بنشر مقالته المنشورة في جريدة اليوم

د. عبيد بن سعد العبدلي

مؤسس مزيج للاستشارات التسويقية والرئيس التنفيذي أستاذ جامعي سابق بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق